فصل: مسألة الرجل يتكارى الدار وينقد كراءها فيسكن أشهرا ثم يبدو له الفسخ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة كرى داره بدينار في السنة ثم أراد بعد ذلك أخذ دراهم:

ومن كتاب أوله سلف في المتاع والحيوان:
وسئل مالك: عمن أكرى داره بدينار في السنة ثم أراد بعد ذلك بشهر أو شهرين أن يأخذ دراهم فكره ذلك، وقال: لا يأخذ منه أكثر مما حل عليه، ولكن ينظر إلى قدر ما سكن من السنة، فيأخذ به دراهم جزءا، وما لم يسكن فلا يأخذ منه ورقا قبل أن يحل، ولكن إن حل فليأخذه أجزاء مقطعة.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال إنه لا يجوز له أن يأخذ منه دراهم بأكثر مما حل له عليه من الدينار؛ لأنه إذا فعل ذلك كان قد باع ما لم يحل له من الذهب بدراهم معجلة، فدخله الصرف المتأخر، وأنه يجوز له أن يأخذ منه دراهم بالجزء الذي حل له عليه من الدينار، ويبقى له عليه ما بقي من الدينار.
فإذا حل أخذ به منه ما شاء ولا يجوز له أن يأخذ به منه قبل أن يحل إلا عرضا معجلا، أو مثل الذهب الذي له عليه في عينه ووزنه وطيبه، أو أفضل من ذلك، وبالله التوفيق.

.مسألة رجلان في منزل ضاق بهما هل يخرج الآخر مقابل عوض:

وسئل مالك: عن رجلين كانا في منزل من منازل الإمارة فضاق بهما، فقال أحدهما لصاحبه: هل لك أن أعطيك كذا وكذا وتخرج عني؟ فقال مالك: لا أراه يحسن وكرهه؛ لأنه لا يدري متى يخرج منه، يعني بذلك أنه يعطي ولا يدري متى يخرج منه ليس إلى أجل، ثم قال: لو كان لك لم أر به بأسا. وأما منازل الإمارة فلا أراه لموضع الأجل.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال؛ لأنه لا يدري كل واحد منهما متى يعزل عن الإمارة فيخرج عن الدار باشتراء المشتري ما لا يدري ما لا يدوم له وباع البائع ما كان لا يدري ما لا يدوم له، والذي يجوز لهما أن يفعلاه في ذلك إذا ضاقت عن سكناهما جميعا أن يكروها- قليلا قليلا ويقتسما الكراء أو يتقاومانها فيما بينهما كذلك لمدة قريبة العام والعامين ونحوهما على معنى ما في الوصايا الثاني من المدونة فإن انقضت قبل أن يخرجا منها تقاوماها ثانية، وإن أخرجا منها قبل انقضاء الأمد الذي تقاوماها إليه رجع الباقي في الدار بالمقاومة على الخارج عنها بما ينوب ما بقي من المدة، ويجوز أن يكرياها السنين الكثيرة ويتقاوماها السنين الكثيرة بغير نقد على معنى ما في رسم الأقضية الرابع من سماع أشهب من كتاب الصدقات والهبات، وبالله التوفيق.

.مسألة الرجل يتكارى الدار وينقد كراءها فيسكن أشهرا ثم يبدو له الفسخ:

ومن كتاب أوله الشريكان لهما مال:
وسألت مالكا: عن الرجل يتكارى الدار وينقد كراءها فيسكن أشهرا ثم يبدو لهما أن يتفاسخا ويرد صاحب الدار على المكتري ما بقي له.
قال مالك: لا خير فيه.
قلت له: أليس يشبه الرجل يتكارى للحمولة ثم يحملها حتى إذا كان في بعض الطريق فأراه مثل الرجل يحج أو ما أشبه ذلك؟ فقال مالك: لا، هو مخالف.
وسئل ابن القاسم عما فرق بينهما، فقال: لأنه ليس يتهم أحد ممن يحمل مثل أن يدبر إبله أو يفلس أو يقع بينهم الشراء ويهلك الكري أو المتكاري فرخص في ذلك؛ لأنه ليس فيه تهمة، فلذلك أرخص فيه، قال: فأما ما لا عمل فيه فإنه إنما هو بمنزلة السلع المضمونة إلى الآجال فيصير بيعا وسلفا إلا ألا ينتقد فيها فلا بأس به.
قال محمد بن رشد: اختلف قول مالك وابن القاسم في استئجار الرجل بعينه وكراء الراحلة بعينها والدار والأرض وما أشبه ذلك، فمرة حمله محمل السلم الثابت في الذمة ومحمل الإجارة المضمونة من أجل أن المنافع تقتضي شيئا بعد شيء فهي غير معينة في أن الإقالة فيها لا تجوز، وإن لم يكن فيها بمجردها فساد إذا ظهر المكروه فيها بإضافتها إلى الصفقة الأولى؛ لأنه اتهمهما على القصد إلى ذلك والعمل عليه فمنع من ذلك حماية للذرائع، وهو قوله في هذه الرواية، ومرة حمله محمل العروض المعينات في أن الإقالة فيها جائزة إلا أن تنعقد بمجردها على ما لا يجوز.
وقع اختلاف قول مالك في ذلك في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب الجعل والإجارة، واختلاف قول ابن القاسم فيه في رسم حمل صبيا من سماع عيسى بعد هذا من هذا الكتاب، وهذا الاختلاف إنما هو إذا تقايلا بغير سبب يرفع التهمة عنهما، وأما إذا وقعت الإقالة بينهما لسبب يعلم أنهما لم يقصدا في عقد الكراء إليه كالتفليس أو الموت أو الشراء أو دبر البعير أو ما أشبه ذلك مما يرفع التهمة عنهما، فالإقالة بينهما جائزة إذا سلمت في نفسها من الفساد، فلا فرق في شيء من ذلك كله بين كراء الدار والراحلة والأجير، وبالله التوفيق.

.مسألة رجلان تكاريا أرضا ليزرعاها فبدا لأحدهما كراء حصته منها:

ومن كتاب اغتسل على غير نية:
وقال في رجلين تكاريا أرضا ليزرعاها فبدا لأحدهما أن يكري حصته منها، قال: أرى شريكه أولى بها، وكذلك لو أن رجلين وهبت لهما ثمرة شجر عشر سنين حبسا عليهما، ثم أراد أحدهما أن يبيع حصته من ذلك بعدما تطيب، قال: أرى شريكه أولى بها ممن أراد شراءها بالذي بذلها به.
قال سحنون: قال مالك: لا شفعة في الأكرية، وقاله ابن القاسم.
قال محمد بن رشد: قول مالك أرى شريكه أولى بها في مسألة الكراء وفي مسألة الثمرة، يريد أولى بها من المشتري بالثمن الذي بذل فيها، لا أنه يأخذ الثمرة من المشتري بالشفعة بعد تمام الشراء والكراء من المكتري بالشفعة بعد تمام الكراء، فليس ما قاله مالك في مسألة الثمرة والكراء بخلاف لما حكى سحنون عن مالك وابن القاسم من أنه لا شفعة في الأكرية؛ لأنهما مسألتان.
فالمسألة الأولى: وهي أن الشريك أولى بالثمرة وبالكراء بما بذل المشتري والمكتري فيها من الثمن والكراء لا خلاف فيها، وكذلك يجب في كل شيء مشترك لا شفعة فيه، ومثله قول مالك في الذي تكون تحته الأمة لقوم فتلد منه فيبيعونها وولدها أنه أحق بها بما يعطى فيها، وقد مضى القول في ذلك في رسم نقدها من سماع عيسى من كتاب النكاح.
والمسألة الثانية: وهي هل تكون له الشفعة في الكراء بعد تمامه وفي الثمرة بعد الشراء أم لا؟ فيها اختلاف، اختلف في ذلك قول مالك، وقع اختلاف قوله في الثمرة في المدونة وفي الكراء في الواضحة، وأخذ بوجوب الشفعة في ذلك ابن الماجشون وابن عبد الحكم، وبأن لا شفعة في ذلك ابن القاسم ومطرف وأصبغ، وبه أخذ ابن حبيب، وكذلك اختلف قول مالك أيضا في الشفعة في الكتابة والدين يباعان، هل يكون للمكاتب والذي عليه الدين الشفعة في ذلك أم لا؟ فقال مرة: إن لهما الشفعة في ذلك، وأخذ به مطرف وابن الماجشون وابن وهب، وأشهب وأصبغ وابن عبد الحكم، وإليه ذهب ابن حبيب، وحكى في ذلك حديثا من مراسيل سعيد بن المسيب أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «الشفعة في الكتابة والدين»، وحكي عن مالك من رواية ابن القاسم عنه: أنه استحسن الشفعة في ذلك، ولم ير القضاء بها، وبالله التوفيق.

.مسألة تكارى أرضا فنبت الزرع فيها ثم جاء سيل فذهب به:

وقال مالك في رجل تكارى أرضا فزرعها فنبت الزرع فيها، ثم جاء سيل فذهب به، قال: لا أرى للمتكاري أن يرجع إلى صاحب الأرض يأخذ منه كراءه، وإنما ذلك بمنزلة الزرع تصيبه الجائحة.
قال محمد بن رشد: إنما هذا إذا ذهب به السيل بعد إبان الحرث أو في إبان الحرث فانكشف السيل عن الأرض في وقت يمكنه فيه إعادة الزرع، وأما لو ذهب به في إبان الحرث فلم ينكشف السيل عنها حتى فاته أن يعيد زرعه لكان له أن يرجع بكرائه على صاحب الأرض على معنى ما في المدونة.
وبالله التوفيق.

.مسألة كراء الدار التي فيها خراب مدة سنين مع اشتراط إعمارها:

ومن كتاب البز:
وسئل مالك: عن رجل أكرى من رجل دارا له وفيها خراب وأكراها إياه سنين فاشترط المتكاري على صاحب الدار مواضع أراها إياه يعمرها من كرائها، فلما وجب ذلك بينهما ندم صاحب الدار، وقال للذي تكارى: قد بدا لي، لا أريد أن أعمر شيئا، فإن بدا لك أن تسكن بغير عمران فاسكن.
قال مالك: أليس قد أراه ذلك؟ قال: بلى، قال مالك: فإن ذلك لازم له في الكراء، وهو جائز.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح على معنى ما في المدونة من أنه يجوز أن يكتري الرجل الدار بعشرين دينارا على أنها إن احتاجت إلى مرمة رمها من العشرين دينارا، زاد في النوادر في هذه المسألة، قال محمد: إذا عرف البناء؛ لأن البناء ليس كالمرمة، يريد محمد: أن ذلك لا يجوز إلا أن يصف البناء الذي يبني به تلك المواضع ويعمرها به من الكراء بخلاف المرمة، والذي أقول به أن ذلك جائز وإن لم يصف البناء كالمرمة، سواء من أجل أن المكتري كالوكيل له على ذلك، فإذا بنى تلك المواضع وعمرها بالبناء على الهيئة التي تشبه أن تبنى عليها لزمه، كمن وكل رجلا أن يشتري له ثوبا أو جارية فاشترى له ما يشبه أن يشتري له من ذلك لزمه، ولو وصف البنيان لكان أتم وأحسن، وقد مضى هذا المعنى في رسم العرية من سماع عيسى من كتاب الجعل والإجارة، وبالله التوفيق.

.مسألة كراء العرصة الخربة على أن ينفق عليها:

وسئل مالك: عن رجل تكارى عرصة خربة على أن ينفق عليها ويكون كراؤها كذا وكذا، قال مالك: أرى أن يسمى ما ينفق فيها ويقاصه بذلك في كراء ما تكارى به من السنين، فقيل له: أفيجعل كراءها دراهم؟ قال: بل أجزاء يجعل نفقته عشرة دنانير وكراءه إياها عشرين سنة في كل سنة نصف دينار، أو أقل من ذلك أو أكثر من السنين والأجزاء، فعلى هذا يتكارى المتكاري ويكري صاحب الدار.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة في المعنى؛ لأن مآلها إن أكراه العرصة عشر سنين سنة بعشرة دنانير على أن يبني بها العرصة لربها، إذا شرط أن يقاصه بالنفقة في الكراء، ولو لم يشترط أن يقاصه بالنفقة في الكراء لم يجز؛ لأنه إذا لم يكن الكراء بالنقد لم يوجب الحكم المقاصة به، ووجب أن يتبعه بنفقته سلفا حالا عليه ويؤدي إليه الكراء بقدر ما سكن شيئا بعد شيء على ما يوجبه الحكم في ذلك.
قال ابن المواز: وهذا إذا كان البناء لرب العرصة ويسمى ما بنى به وكان ذلك من الكراء لا يزيد عليه، وشرط ابن المواز أن يكون ذلك من الكراء لا يزيد عليه صحيح مثل ما في المدونة لأنه إن شرط أن ينفق في العرصة أكثر من كرائها كان الزائد على الكراء سلفا منه لرب العرصة، فدخله كراء وسلف.
قال ابن المواز: وأما إن كان البناء للمكتري فلا يحتاج إلى تسمية ما يبنى، ولا ما ينفق، ولا أحب شرطه في أصل الكراء إلا أنه إن بنى فمتى ما خرج فلرب العرصة أن يعطيه قيمته مقلوعا أو يأمره بقلعه.
وقول ابن المواز إن البناء إذا كان للمكتري فلا أحب اشتراطه في أصل الكراء صحيح بين؛ لأنه إذا اشترط ذلك عليه فقد وقع الكراء على أن يأخذ المكري من المكتري بنيانه بقيمته مقلوعا عند انقضاء أمد الكراء، وذلك غرر لا يجوز، وإنما لم ير في الرواية أن يجعل كراءها دراهم إذا كان ينفق فيها دنانير ويقاصه بها في الكراء لأنه يدخله عدم المناجزة في الصرف، إذ لا يحل الكراء عليه إلا بالسكنى شيئا بعد شيء، ولو قال:
أكتري منك العرصة لعشرين سنة بعشرة دنانير نصف مثقال لكل سنة على أن أنفق فيها مائة درهم من مالي تكون مقاصة بالكراء، أو قال: أكتري منك العرصة بمائة درهم لعشرين سنة على أن أنفق فيها عشرة دنانير تكون مقاصة بالكراء لجاز ذلك، وإن سمج القول؛ لأن الأمر يئول فيه إلى صحة الفعل، وهو كراء العرصة عشرين عاما بالعدد الذي سمى أنه ينفق فيها، وبالله التوفيق.

.مسألة العبد يستأجره الرجل شهر بعشرة وشهر بخمسة:

ومن كتاب سن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
وسئل مالك: عن العبد يستأجره الرجل هذا الشهر بعشرة دراهم وهذا الشهر بعده بخمسة دراهم، قال مالك: إن كان ذلك شيئا واحدا فلا بأس به، كأنه كل شهر بسبعة دراهم ونصف، وإن كان أراد أن يجعل هذا الشهر بعشرة دراهم إن أصاب العبد أمر حاسبه على ذلك ويرد عليه خمسة بحسابه فلا خير فيه إن ثبت هذا الأول بعشرة والآخر بخمسة حتى يكونا جميعا في كراء واحد، ويكون الكراء كله على الشهرين نصفين.
قال ابن القاسم: وهذا من وجه بيعتين في بيعة؛ لأن العبد لو هلك في الشهر الأول غبن الكري المستكري، فإن هلك في الشهر الآخر غبن المستكري الكري، فهذا خطر لا يصلح، قال ابن القاسم: وكذلك الأرضون والدور والدواب وكل ما يتكارى.
قال محمد بن رشد: أما إذا سمى لأحد الشهرين اللذين جمعتهما الصفقة أقل مما ينوبه من الإجارة أو الكراء وللثاني أكثر مما ينوبه من ذلك أو لأحد الثوبين اللذين اشتراهما صفقة واحدة أقل مما ينوبه من جملة الثمن وللآخر أكثر مما ينوبه منه على أنه متى وقع استحقاق في أحدهما أو ما يوجب الرجوع بمنابه من الثمن رجع بما سمى له من الثمن فلا اختلاف في أن البيع فاسد، وأما إن وقع البيع بينهما بالتسمية على أنه إن وقع استحقاق في أحدهما أو بما يوجب الرجوع بمنابه من الثمن إذا فض على قيمتهما لا بما سمى له منه، فلا اختلاف في أن البيع جائز.
واختلف إذا عري الأمر من بيان، فقيل: إن التسمية لغو والبيع صحيح، وإن وقع استحقاق في أحدهما فض الثمن عليهما ورجع بما ينوبه، ولم يلتفت إلى التسمية، وهو مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة، وقول سحنون وأصبغ، وقيل: إن التسمية مراعاة والبيع فاسد إن كان سمى لأحدهما أقل مما ينوبه من جملة الثمن وللآخر أكثر مما ينوبه منه، وهو أحد قولي مالك في رواية ابن القاسم عنه في رسم باع غلاما من هذا الكتاب في بعض الروايات، وقال: سئل: عمن تكارى دارا سنتين فتكارها هذه السنة بستة وهذه بأربعة وكراؤه مختلف في السنتين، قال: الكراء فاسد وقد سكن سنة.
قال: يرد الكراء ويكون لصاحب الدار قيمة سكناه في تلك السنة وأراه فاسدا.
قال سحنون: الكراء جائز لا بأس به، ووقع الاختلاف في ذلك أيضا في الدمياطية، قال: وسئل ابن القاسم عن قول مالك في الرجل يتكارى الدار أو الحمام أو العبد شهرين في صفقة واحدة بكراءين مختلفين شهرا بعشرة وشهرا بعشرين، لم كرهه مالك وقد بيع الرجل الثوبين صفقة واحدة، والعبدين والدارين بثمنين مخلفين؟ قال: إنما كره مالك من ذلك ما كان بيعتين في بيعة، وذلك أن يكون الكراء في الشهرين متقاربا، فلما أراد أن يجمعهما بسعر واحد خاف المكتري أن يجيء فيما اكترى دعوى تخرجه من يده في بعض أجل الكراء فخاطره بأن يجعل كراء هذا الشهر الأول بعشرة، وكراؤه المعروف بخمسة عشر، فإن سكن الدار شهرا فاستحقت فأخرج أو أصابها هدم أو حريق كان كراء الشهر الماضي بعشرة، وسقط عنه الشهر الثاني عشرون، ولو جمعهما كان من الكراء عليه خمسة عشر، وعسى أن يحدث في الدار أو الحمام في الشهر الأول ما يمنعه منه ثم ينتفع به الشهر الثاني فيغرم له عشرين فيكون قد حمل عليه خمسة دنانير فوق كراء ذلك الشهر للمخاطرة التي أدخلا، فلهذا نهى عنه مالك ورآه من بيعتين في بيعة.
قيل: ويدخل مثل هذا في بيع الثوبين والدارين؟ قال: نعم، انظر أبدا إلى كل ما جمع في البيوع فأضيف بعضه إلى بعض في الصفقة واختلف فيه الأثمان، فإن كان ما وضع على كل صنف ما يرى أنه ثمنه أو كراؤه لو أفرد دون صاحبه فلا بأس به، وإن جمعته الصفقة فليس يدخله بيعتان في بيعة، وإن رأيت أنه قد وضع على أحدهما مالا يسوى وخفف عن الآخر حتى يأتي من ذلك أمر بين يدل على أنهما أرادا الخطار على مثل ما وصفت لك من أمر الكراء فلا خير فيه، وهو من بيعتين في بيعة.
قال الوليد: وسألت أصبغ عن بيع الدارين والثوبين، فقال: لا بأس بالبيع فيهما على حال صفقة واحدة سمى لهما ثمنا أو لم يسمه، كان الثمن يشبه ما سمى لكل واحد منهما أو أقل منهما أو أكثر فهو سواء، والبيع جائز، وإن وجد عيبا فض الثمن على قيمتهما، ولم يلتفت إلى التسمية على حال، وليس تفسد التسمية في هذا ولا يلتفت إليها؛ لأنه يرجع إلى أن يفض وليس في هذا عندنا اختلاف.
هذا نص ما وقع في الدمياطية، وهو يبين موضع الاختلاف في المسألة على ما ذكرناه، وبالله التوفيق.

.مسألة رجل كان يسكن منزلا فأنفق فيه مالا ثم أرادوا إخراجه:

وسئل مالك: عن رجل كان يسكن منزل رجل فأنفق فيه مائتي درهم ثم أرادوا أن يخرجوه فلم يكن عند صاحب المنزل الدراهم، فقال رجل: أنا أقضي عنك فأعطاه فيها ثلاثة عشر دينارا، ثم قال له بعد ذلك أنا آخذ منك هذا المنزل بدرهمين كل شهر حتى ينفد مالي عليك، قال مالك: لا خير في هذا الكراء، وأرى أن يفسخ وأرى أن يكون له على صاحب البيت ثلاثة عشر دنانير ويقوم كراء مسكنه فيما سكن ثم يدفع إلى صاحب المنزل.
قال محمد بن رشد: قوله إنه كراء لا خير فيه يفسخ بين؛ لأنه فسخ دين في دين، فسخ ما له عليه من الذهب التي أدى عنه في سكنى منزل لا ينتجز قبضه، وذلك جائز على مذهب أشهب الذي يرى أن قبض الشيء المكترى ليستوفي فيه الكراء قبض لجميع الكراء، فيجيز لمن له على رجل دين أن يأخذ منه به عبدا يخدمه إلى أجل ما، أو دابة يركبها إلى أجل ما.
وقد اختلف قول مالك في هذا الأصل وقع اختلاف قوله في رسم حلف من سماع ابن القاسم من كتاب الرواحل والدواب، وسيأتي القول على ذلك هنالك إن شاء الله.
وأما قوله إذا فسخ الكراء إنه يكون له على صاحب البيت ثلاثة عشر دينارا فهو كما قال، إن كان دفع عنه الدنانير بأمره، وأما إن كان أمره أن يقضي عنه المائتي درهم فأعطاه فيها ثلاثة عشر دينارا، فقيل: إن ذلك لا يجوز، ويفسخ القضاء ويرجع بما دفع، ويبقى الدين على صاحب المنزل كما كان، وقيل: إن ذلك جائز، ويرجع بالأقل من ذلك يكون الآمر مخيرا بين أن يدفع إليه ما دفع، أو ما أمره بدفعه، وقد مضى تحصيل القول في هذا المعنى في أول مسألة من سماع ابن القاسم من كتاب الصرف.
وأما قوله إنه يكون عليه كراء المسكن لصاحب المنزل على ما يقوم به فهو بين لا إشكال فيه؛ لأنه سكنه على كراء فاسد فيكون عليه فيه القيمة.

.مسألة كراء الأرض بالحنطة ليزرعها قمحا:

ومن كتاب أوله نذر سنة يصومها:
وسئل مالك: عن الرجل يتكارى الأرض بالحنطة فيزرعها، فيزرعها قمحا، أترى أن يشتري منه ذلك القمح؟ قال: تركه أحب إلي.
قال محمد بن رشد: إنما كره مالك أن يشتري منه ذلك القمح؛ لأن مكتري الأرض بالحنطة كأنه مشتر للقمح الذي رفع من الأرض بالحنطة التي دفع إذ عرضه في اكتراء الأرض ما يخرج له منها فوجب على قياس هذا أن يكون القمح لرب الأرضين، والصحيح على الأصول أن يكون القمح للمكتري ويكون عليه قيمة كراء الأرض ذهبا أو ورقا ويرجع بحنطته بشراء القمح منه على هذا جائز، وإنما كره مالك شراءه منه تورعا للمعنى الذي ذكرناه، وبالله التوفيق.

.مسألة كراء الدار سنة بعشرة واشتراط المحاسبه بما سكن إن لم يكمل المدة:

وسئل مالك: عن الرجل يتكارى الدار سنة بعشرة دنانير ويشترط على صاحبها إن بدا له أن يخرج قبل السنة حاسبه بما سكن، إلا أنه يشترط عليه سنة، قال: لا بأس بذلك إذا لم ينقد في كرائه، فإذا نقد فلا خير فيه، قال: وكذلك الرجل يتكارى سنين، ويقول: متى ما بدا لي أن أخرج خرجت فيقيم سنتين أو ثلاثا. قلت له: أفتراه مثله؟ فقال: نعم، قال: وكذلك الدواب.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال؛ لأنه كراء بخيار، فلا يجوز إذا نقد؛ لأنه إن خرج قبل انقضاء الأمد رد عليه كراء ما بقي من الأمد، فدخله كراء وسلف، ويجوز إذا لم ينقد، وهو قول ابن القاسم في سماع أبي زيد، وقول ابن القاسم وروايته عن مالك في أول كتاب الجعل والإجارة من المدونة، وقول مالك في رسم الشجرة، ورسم باع غلاما من سماع ابن القاسم من كتاب كراء الرواحل والدواب، قياسا على البيع الذي يجوز أن يكون أحد المتبايعين فيه بالخيار.
وقال سحنون: لا يجوز؛ لأنه كراء إلى أجل مجهول، وقول ابن القاسم وروايته عن مالك أظهر؛ لأنه بمنزلة أن يقول الرجل للرجل قد بعتك من صبرتي هذه ما شئت، كل قفيز بدرهم، وبالله التوفيق.

.مسألة كراء البئر لسقي الزرع حتى حصاده فتهورت بعد السقي:

من سماع أشهب وابن نافع من مالك رواية سحنون من كتاب الأقضية الأول قال سحنون: أخبرني أشهب وابن نافع، قالا: سألنا مالكا عمن أكرى بيره رجلا سنة يسقي بها زرعه، أو أكراه إياها حتى يحصد زرعه، فتهورت بيره بعدما يسقي، فقال: يكون له من الكراء بقدر ما سقى من السنة أو من الأيام التي يحصد فيها زرعه، مثل العبد يؤاجره شهرا فيعمل بعضه ثم يموت، فكذلك بير الزرع إذا سقى به بعض السنة ثم تهور البير أخذ مما آجره به إياها بقدر ما سقى من السنة إن كان انتفع بما سقى من زرعه استكراها صيفة وشتاء، فسقى صيفة وحصد زرعه ثم هارت البير فله كراء الصيفة بحسب ما أكراه من الصيفة والشتاء؛ وإن كان سقى زرعه ثم هارت البير ولم يحصد شيئا من زرعه، ولم ينتفع به فمات الزرع لم يكن له عليه فيما سقى شيء، ورد عليه الكراء كله؛ لأنه لم ينتفع به، وأما إذا انتفع بمائه وسقى عليه وحصد ثم هارت البير فإنه يأخذ منه من الكراء بحسب ما آجره السنة بعشرة دنانير فسقى ستة أشهر ثم هارت البير فإنه يرد عليه نصف كرائه ويأخذ كراءه على ما أحب أو كره، ليس عليه أن يرد إلا ذلك قط.
وعمارة البير شديدة، وربما أنفق عليها المال الكثير والعين كذلك، فإن قال الذي كان له الزرع هات العشرة دنانير من كراء البير أعمر بها البير فذلك له، فإن زاد من عنده عشرين دينارا فليس له على صاحب البير من ذلك شيء.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة حسنة جيدة صحيحة على معنى ما في المدونة وغيرها؛ لأن الحكم في تهور البير المكتراة لسقي الزرع كالحكم في تهور البير في الأرض المكتراة للزرع في أن جميع الكراء يبطل، وإن سقى بعض السنة إذا بطل الزرع ولم ينتفع بما سقى، وفي أن له أن ينفق في إصلاح البير كراء سنة واحدة؛ لأنه يحيي بذلك زرعه ولا ضرر فيه على رب البير أو الأرض، وفي أنه إن سقى بعض السنة فانتفع بما سقى كان عليه من الكراء بحساب ذلك.
وقوله فإن زاد من عنده عشرين دينارا فليس له على رب البير من ذلك شيء، يريد: إلا أن يكون له فيه نقض قائم من حجر أو آجر وشبهه فله قيمته مقلوعا، إلا أن يخلي بينه وبين قلعه، وبالله التوفيق.

.مسألة تهور البئر المؤجرة قبل انقضاء المدة ورفض صاحب الأرض تعميرها:

ومن كتاب الأقضية:
قال: وسألته عمن تكارى أرضا ونقد كراءها فزرع في الأرض فبلغ الزرع حتى سنبل ثم تهور البير فأبى صاحب الأرض أن يعمرها، فقال لي: إن شاء المتكاري أخذ منه كراء سنة واحدة مما دفع إليه فعمر به البير وليس له أن يأخذ كراء السنين كلها، ليس له أن يأخذ إلا كراء سنة، فإن كره ذلك ترك الزرع يبطل وأخذ كراءه كله، ولم يكن لصاحب الأرض شيء.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة أن البير إذا تهورت بعد أن يزرع المكتري فأبى رب الأرض من إصلاح البير كان من حق المكتري أن ينفق فيها كراء تلك السنة وحدها، وإن كان قد نقده فيؤخذ من رب الأرض وينفق في إصلاح البير، وإن كان قد استهلكه ولم يوجد له مال، كان للمكتري أن ينفقه عنه، ويكون له سلفا عليه، وإن لم يكن في كراء السنة ما يقوم بإصلاح البير، وأراد المكتري أن يزيد فهو متطوع بالزيادة، لا شيء له فيها إلا أن يكون فيما أخرج من ذلك شيء قائم فيكون له أن يأخذه إلا أن يعطيه رب الأرض قيمته مقلوعا، وإن انهارت البير قبل أن يزرع وأبى رب الأرض من إصلاح البير انفسخ الكراء ولم يكن للمكتري أن ينفق من كراء الأرض في البير شيئا، فإن أنفق فهو متطوع فيما أنفق يكون لرب الأرض كراؤه كاملا للسنين كلها التي كان الكراء إليها أو لما كفى الماء الذي عاد في البير بنفقة المكتري فيها منها، أعني من السنين المكتراة ولا شيء له فيما أنفق إلا في نقض قائم من حجر أو آجر أو شبه ذلك، فيكون له أن يأخذه إلا أن يعطيه رب البير والأرض قيمة ذلك مقلوعا، هذا معنى ما في كتاب ابن المواز والمدونة وغيرهما والذي يأتي على أصولهم، وبالله التوفيق.